المدرسة المَمْدَرية في النقد المَمْدَري
(دراسة أكاديمية)
المدرسة المَمْدَرية في النقد المَمْدَري لا يمكن أن تصبح في يوم من الأيام أداة إسقاط على أيّ إبداع سواء كان عربيا أم أعجميا لأنها لا تملك شيئا مُفصَّلا يأتي على القياس، وليست هي قالبا يمكن أن يُقْحَم فيه ما يراد إبداعه أو صنعه على نفس القياس، بل تملك شيئا لا يظهر إلا عند ممارسة القراءة البادية للإبداع في النصوص الأدبية، أي تملك الاستعداد للإبداع، وبذلك لن تنتهي كما انتهت إليه المدرسة البنيوية ولا المدرسة التفكيكية ولا غيرهما لأنها بعيدة كل البعد عن تلك الاتجاهات، ومحصنة كل التحصين من أن تصير إلى مصيرهم، فليست هي سحابا يَخرجُ الوَدْقُ من خلاله، ثم يأتي الناقد ويقف تحت السحاب لتمطره بغيثها، كلا، فذلك يعتبر إسقاطا، فنزول الماء على الصخر والبحر لا يُنتج إنباتا للكلأ الذي تنبته الأرض لو أن ماء المُزْن نزل عليها، والإسقاط إذا كان على شيء ليس من جنسه، ولا هو قابلا لقياسه عليه يكون ذلك تعسُّفا على النصوص وإخراجا لها عن طبيعتها الأدبية، ومما يُؤْسف له أن الكثيرين يمارسون هذا النوع من النقد، يأخذون ما تعلموا في المدارس الغربية التي أنتجت أدبا مبنيا على لغاتها ثم يسقطونه على الأدب العربي الذي يتميز كل التميز بمرونة لغته وانسيابها وسعتها الكبيرة في التفعيل والاشتقاق والتركيب، فلا تَبَجُّعات فيها ولا انكسارات، إنها اللغة الثّرّة الثّريّة التي لا يمكن إلا أن تعلوا على حوالي 6 آلاف لغة من لغات العالم اليوم وسائر اللغات قديمها وحديثها لغناها وفقر غيرها، ففيها 16000 جذر لغوي بينما غيرها كاللاتينية التي عنها نشأت ومنها جاءت لغات كالفرنسية والإيطالية وغيرهما؛ بها 700 جذر لغوي، ولا أقول اللغة الإسبانية فاللغة الإسبانية الحديثة نشأت عن اللاتينية والعربية، ولا يعني ذلك أن غيرها من لغات أوروبا خالية من الاقتباس من اللغة العربية، كلا، فالإنجليزية مثلا من الأنجلو *** ون بها 2000 جذر لغوي وقد أخذت هي الأخرى من العربية، خذ مثلا كلمة "طال" بمعنى طويل، وهي عينها في اللغة العربية، و"طال" في الإنجليزية Tall كلمة جامدة لا يصدر عنها شيء ولا يُسْتولد منها شيء خلاف الكلمة العربية ففيها طال يطول وطويل وأطول وطائل وطلّ وذو الطول ومستطيل.. وخذ كلمة أخرى هي جيد وهي في الإنجليزية "جيد" Good وللتعبير عن الأجود يزاد على الكلمة في الإنجليزية فيقال: "فيري جود" Very Goodبينما في العربية يلون وزن الكلمة فتقول: أجود، أضف إلى ذلك كثرة ما يخرج عن اللفظة العربية مثل رضى ورضوان، وعنف وعنفوان، ورحيم ورحمن، وقاتل وقتيل وجمود اللفظة الإنجليزية وهكذا، فكلمة كهف عربية أخذتها عنها اللغة اللاتينية، ففي اللاتينية "كافوس" Cavus، وفي الإنجليزية "كاف" Cave، وفي الفرنسية "كاف"Cave، وفي الإيطالية "كافا" Cava ، فبتلك اللغات الناشئة عن اللاتينية باستثناء اللغة الإنجليزية لأنها من الأنجلو *** ونية؛ حصل الإبداع، ومنها نشأ النقد، ثم جاء من تتلمذوا على يد النقاد الغربيين، وتخرجوا من المدارس النقدية الغربية فاستقوا ذلك الإسقاط الذي نعيبه عليهم لأنه لا يطابق واقع النصوص الأدبية العربية، وما ذُكر عن اللغة العربية كاف لإدراك الباع الشاسع بين لغة عظيمة ثَرَّة ثَرِيّة وبين غيرها، به ندرك أيضا عدم الموافقة والمطابقة، كما أنه قد جالستُ متخرّجين في المعارف النفسية والاجتماعية، أي ما يسمى بعلم النفس وعلم الاجتماع فوجدت نفس الإسقاط الذي مارسه بعض الفلاسفة حين أخذوا ما تُرجم من الفلسفة اليونانية والمنطق اليوناني وشرعوا يؤولون ثقافة الأمة لتوافق المنطق اليوناني والفلسفة اليونانية، وكان ذلك عيبا كبيرا، ولكنه لحسن الحظ لم يخلّ برؤية الحقيقة عند من يملكون ذهنا صافيا، وطريقة ناجعة في البحث وهم من أوصلوا إلينا مشكورين مأجورين؛ ثقافتنا، أوصلوها إلينا صافية لا يعتريها ما يعكِّر صفوها، نقلوها إلينا بأصح الطرق نقية لا وجود لشوائب فيها، جاءوا بها مبلورة يُنْظر إليها من جميع الجوانب.
تأسست المدرسة النقدية في النقد المَمْدَري، أو المدرسة المَمْدَرية النقدية للإبداع، أو مدرسة النقد الإبداعي عندما مورست القراءة البادية للإبداع لأعمال المبدعين من شعر وقصة وحكاية.. فقد استدعتني جمعية أقلام مغربية ((لحضور نشاط ثقافي في مركز محمد السادس للأعمال الاجتماعية بطنجة في شهر فبراير سنة: 2017م واقترحتني قَيِّماً على نصوص المبدعين أنظر فيها وأقوِّمها، وقد مارست الارتجال عند نهاية كل مبدع لقراءة إبداعه من شعر وقصة، وكنت حينها ممارسا للقراءة البادية للإبداع دون أن أكون واعيا عليها وعالما بها)) القراءة البادية للإبداع ــ أسئلة شبه أجناسية ــ جريدة طنجة الجزيرة، www.tanjaljazira.com باب: ثقافة وفنون بتاريخ: 13 مارس 2017م، كما تأسس عندها مباشرة النقد المَمْدَري غير أنه لم يتبلور لدي إلا بهذه الدراسة المختصرة..
ظهرت القراءة البادية للإبداع في المؤسسة التعليمية المذكورة، ثم تطورت لتصبح ذات شِقّين، شِقّ يظهر من خلال القراءة البادية للإبداع، وهي التي مورست في تلك المؤسسة، وهي قراءة أوّلية تمارَس مباشرة بعد انتهاء المبدع من إلقاء شعره أو قصته أو حكايته، إنها مُبْتدأ الرأي في النظر إلى العمل الإبداعي بقراءة منطوقة.. وهذه العملية إبداع دون شك لأنها تُبْنى على إبداع سابق، ويمارَس فيها نقد خفيف من أجل تصحيح البناء اللغوي للنصوص العربية فقط، وهذا الجانب؛ اُلأصلُ فيه أن يغيب، ولكن حضوره ثابت عند من يقعون في أخطاء لغوية، وغائب عند من يحسنون إخراج النصوص خالية من العيوب في التركيب والنظم والتأليف، والأخطاء من هذا النوع تتفاوت من مُتَمَكِّن من اللغة إلى آخر، وهنا يحضر النقد ويُحْصَر في التصحيح، تصحيح الأخطاء اللغوية، وتصحيح النظم والتأليف إذا كانا لا يلتزمان بسلطان اللغة العربية، أما عند تجاوز ذلك فالأمر يصبح قراءة بادية للإبداع منطوقة في شقها الأول.
ويصبح قراءة بادية للإبداع في شقها الثاني مكتوبة عند الاختلاف في الإلقاء والتلقي، فالمبدع إذا كان يلقي إبداعه مرتجلا إياه، أو قارئا له من كتاب أو ورقة، أو من خلال هاتفه الذكي وكان الذي يتلقّى ذلك الإبداع يستمع ثم يبدي قراءته المنطوقة لما استمع إليه في حينه فهو عندئذ يكون ممارسا للقراءة البادية للإبداع في شقها الأول، أما إذا تناول النصوص وهي مكتوبة، ثم كتب عنها، كان ما كتب قراءة بادية للإبداع في شقها الثاني، ولقد حققت ذلك الشق في ديوانين "شعريين" لمليكة الجباري، وحميد اليعقوبي، ولا يقال بهذا الصدد أن قَوْلَ القراءة البادية للإبداع ينفي حصول القراءة الثانية أو ما عبّرتُ عنه بالشق الثاني، لا يقال ذلك لأنه وإن لم يتحقق تكرار القراءة في النصوص فإنها تكون داخلة في الشق الثاني ويستحسن أن تكون كذلك حتى يظهر المبنى لابسا معناه مقتعدا على معنى سابق والذي لا يكاد يلتفت إليه الممارس للقراءة البادية للإبداع في شقها الثاني أو الأول أو هما معا..
وبعد أخذ وردّ، وتقليب الآراء في هذا الذي سقْتُه؛ تقرّر لدي أن أسمّي ذلك نقدا مَمْدَرِيا، فكان النقد المَمْدري هو ما تحقق من خلال القراءة البادية للإبداع بشقيها الأول والثاني، وكان الممارِس للقراءة البادية للإبداع ناقد مَمْدَري، يمكن أن يكون النقد المَمْدَري مرادفا للقراءة البادية للإبداع، وهذا لا بأس به وهو تميز عن سائر أنواع النقد الممارَس من طرف ما يسمى بالنقاد الذين لم يستطيعوا استنبات مدارس نقدية من جنس الأدب العربي حتى يكونوا مدارس في النقد من داخل الإبداع باللغة العربية، ولم يتم استنبات أجناس نقدية لهم في الأدب العربي..
ولكي أبدي وضوحا في تقعيدي للنقد المَمْدَري أسوق له ثلاث قواعد يقوم عليها وهي:
أولا: استحضار سلطان اللغة العربية في كل نص أدبي يراد له أن يمارَس عليه النقد المَمْدَري، فإذا شرع القارئ في قراءة نصه وكانت به أخطاء لغوية أو خروج عن سلطانها الذي يجب احترامه؛ وجب حينها على الناقد المَمْدَري ألاّ يسمح بمرور تلك الأخطاء وإن كان الأصل ألاّ توجد، ولكن لا بأس خصوصا بشأن من نروم تعليمهم وتأديبهم من تلاميذ وطلبة وشعراء وأدباء، المهم أن يبدأ برؤية النص وهو مكتمل المبنى بلبنات من جنس اللغة العربية، وإذا لم تكن من جنس اللغة وجب إدماجها في الجنس بطريق التعريب، والتعريب هو صياغة اللفظة غير العربية بالوزن العربي، ولا يقال بهذا الصدد أن ذلك خروج عن العربية مادام الأمر يتجاوز اللفظ العربي إلى اللفظ الأعجمي، لا يقال ذلك لأنه في الجاهلية مثلا قد ورد في شعر امرئ القيس "السجنجل" وهي المرآة ولم يقل أحد أنها غير عربية لأنها قد أخضعت للوزن العربي وهو ما اعتبر عند العرب عربيا لأنه لفظ مُعَرّب، وهناك الكثير، ونزيد فنقول أن القرآن الكريم عربي بشهادته هو عن نفسه في قوله تعالى: ((إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (2) يوسف))، وقوله تعالى: ((وكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لَا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ (7) الشورى))، وقوله تعالى: ((وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (192) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194) بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (195) الشعراء))، وقوله تعالى: ((وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (4) إبراهيم))، ومعنى ذلك نفي أن يكون أعجميا، نفي أن يكون غير عربي، وصفة العربية صفة للفظه وليست صفة لمعانيه لأن معانيه ليست عربية، ولكن فيه لفظة: "مشكاة" وهي لفظة هندية وقيل حبشية، وفيه لفظة: "الاستبرق" وهي فارسية، وفيه لفظة "سجّيل" وهي فارسية أيضا، وفيه لفظة: "طه" وهي نبطية وفيه لفظة: "القسطاس" وهي رومية، وهكذا، ومع ذلك لا يصح أن يقال عن القرآن الكريم أن ألفاظه غير عربية، بل يقال أن بالقران ألفاظا تم تعريبها من اللغات غير العربية فصارت بطريقة التعريب وتقنية الإخضاع للوزن العربي؛ عربية، صارت عربية وعربية فحسب مع وجود أصول لها في غيرها، وهذا هو الذي يزيد من رفع قيمة هذه اللغة العظيمة التي احتفظت بتقنية التعريب وطريقة الإخضاع للوزن العربي حتى تسع كل اللغات، وذلك دليل على مرونتها وسلاستها وقدرتها على الاستيعاب، استيعاب جميع لغات الدنيا لو أن أهل اللغة عرّبوا من الألفاظ الأعجمي،ة من الروسية والصينية، من اللغات الأوروبية والإفريقية والأسيوية والأمريكية والأسترالية ما كان جميلا عند النطق به، ثم أدخلوه العربية.
لا يُسمح في النقد المَمْدَري لمبدع مثلا أن يصوِّر ذهاب بطله أو أحد من قصته أو روايته أو حكايته أو شعره إلى مريض في المستشفى وهو يضع لذلك كلمة زيارة، فالزيارة تكون للمعافى، والعيادة تكون للمريض، وهكذا في كل ما يسيء إلى اللغة العربية ويخرج عن سلطانها مثل طلب القعود على الجَنْب والذي طُلب منه القعود على الجَنْب جالسٌ القرفصاء، فالقعود لا يكون إلا عن قيام وهكذا.
ثانيا: قراءة النص الأدبي ضمن زمن مقبول من شعر وقصة ورواية وحكاية وخاطرة وغيرها في حضرة الناقد المَمْدَري يستمع إليها مباشرة، وعند الانتهاء من القراءة يشرع في ممارسة النقد المَمْدَري في شقّه الأول ويكون ذلك ارْتِجالا، لا يُشْترَط الارتجال في الذي يقرأ نصه الأدبي، بل يُشْترط في الناقد المَمْدَري لأنه يجهل ذلك النص، ولم يسبق له أن قرأه حتى يُوظِّف المعلومات السابقة ويُعْمِل عقله فيه ويتأمّل دلالاته ويقف على صوره الأدبية وما فيها من مراتب الجمال الأدبي، يفعل كل ذلك بعد أن يستمع للنص الأدبي، وبحسب قدرته على الاستحضار يبدع قراءة بادية ثانية للإبداع، وإذا استطاع أن يُطَعِّم قراءته بالأدب المَمْدَري الذي يقوم على التثقيف الفني والرياضة الذهنية، ويستهدف غاية مزدوجة هي المتعة العاطفية والمتعة الذهنية؛ ظهر ما يسوقه أجمل مما لو لم يكن من الأدب المَمْدَري لأنه به يبدع أدبا مَمْدَريا.
ثالثا: قراءة النص الأدبي من طرف الناقد المَمْدَري ضمن زمن لا ضرورة أن يُحْصر في ساعة معينة لأن القارئ للنص الأدبي يمكن أن يكون قارئا له عدة مرات وفي أزمان متباعدة، كما أن النص الأدبي قد يكون طويلا وذلك كأن يكون قصة طويلة أو رواية، ثم يشرع الناقد المَمْدَري في ممارسة النقد المَمْدَري بقَيْدٍ يمكن التحرُّر منه، وهو قيْد الإتيان بالأدب المَمْدَري لأن له من الوقت ما يكفيه لفعل ذلك، ولأن به يتحقق الأدب المَمْدَري في النقد الممدري، ثم بعد ذلك يقرأ عمله أو ينشره وهو عينه الشق الثاني من النقد المَمْدَري، ولأجل تحقيق الأدب المَمْدَري في النقد الممدري بمكونيه الاثنين: التثقيف الفني، والرياضة الذهنية، فالأمر سهل ميسور لو أن الناقد اعتمد على التشبيه والكناية العلمية للإتيان بالأدب الممدري لأن التشبيه والكناية العلمية بالنسبة إليه شيء في المتناول وهو في الممكن ما على الناقد الممدري إلا أن يمتلك معلومات علمية يتم توظيفها في جانب التشبيه والكناية العلمية، كما يتوجّب عليه أيضا أن يكون ذا قدرة على تطويع الكلمات والجمل والفقرات والنصوص تطويعا يجعله يُنَوِّع في النظم والتأليف إلى أن يصل إلى الذروة، إلى مراده، وذلك كأن يسوق عبارة:
نظر بعين أضربت إحدى قَرْنِيّتها عن تلقّي الأوكسيجين من الهواء.
أي أنه يشبِّه نظر الناظر إلى الأشياء بعين واحدة، وبالعبارة كناية علمية عن العَوَر، لأن قرنية العين في جسم الإنسان تتلقّى الأوكسيجين من الهواء مباشرة، بينما سائر أعضاء الجسم البشري تتلقى الأوكسيجين من الدم، أو يقول قاصدا تحقيق "الانصزالية"(1):
وحين اشتد البرد أُغْمِي على زوجه الثانية فركض يَبْغي جَلْبَ قَبَسٍ من النار حتى لا يقتلهم الصقيع، وبينما هو يركض؛ وقع لموت إحدى حبيبتيه، ثم نهض وأكمل جَرْيه ليعود إلى أهله لعلهم يصطلون.
أما إذا لم يأت الناقد المَمْدَري بالتثقيف الفني والرياضة الذهنية ويستهدف المتعة العاطفية أو المتعة الذهنية أو هما معا فإن ذلك لا يخرجه عن صفة الناقد المَمْدَري لأنه قد تدثّر بالمَمْدَرية وركب أجناسها الأدبية فكان بذلك ناقدا مَمْدَريا.
وقبل أن أنهي دراستي راودني سؤالان ملحان وهما:
ــ أولا: إذا كان النقد المَمْدَري نقدا للنصوص العربية بالتقعيد الذي وضعتُه له فلماذا لا ينسحب ذلك على النصوص غير العربية؟
ــ ثانيا: هل يمكن للنقد الممدري بالتقعيد الذي وضعته له بقابلية أن ينسحب على الأعمال الأدبية المترجمة؟
والجواب على السؤال الأول أن النص الأدبي في لغته المكتوب بها لا ينتج إبداعا من جنس النقد المَمْدَري ما لم يكن الذي كتب النص والذي قرأه قراءة بادية منطوقة في شقها الأول أو مكتوبة في شقها الثاني قد فعلا بنفس اللغة المكتوب بها النص، فالنقد المَمْدَري ركوب على إبداع سابق يَشترط صحة اللغة وسلامة التركيب، وشرط صحة اللغة وسلامة التركيب موجود في اللسان غير العربي، واللسان غير العربي أعجمي والأعجمية صفة للسان ولا علاقة لها بالقومية، وما دام الأمر كذلك ففي اللسان غير العربي روائع في الشعر والقصة والرواية.. وهي نصوص أدبية ينسحب عليها ما ينسحب على النصوص العربية، والأمر هنا ليس للتقييم ولا للمفاضلة، ولا يعيبها شيء إلا أن يتناول الناقد المَمْدَري النصَّ ويبني عليه بلغة غير اللغة التي كتب بها، فالفرنسية والإسبانية مثلا لغتان يمكن أن يمارس بحق نصوصهما الأدبية النقد المَمْدَري ولكن بنفس اللغة الإسبانية والفرنسية شريطة أن يكون الناقد متقنا للغة المكتوب بها النص، وبذلك يمكن القول أن النقد المَمْدَري ينسحب على سائر النصوص الأدبية سواء كانت عربية أم أعجمية، سواء كانت بلسان فرنسي أو إنجليزي أو باشتوني أو أمازيغي أو كردي أو روسي أو غيره.
فإذا أبدع المبدع شعرا باللغة الفرنسية مثلا ثم قرأ نصه بحضرة أديب أو مُتَذَوِّقٍ للنص الأدبي مُتْقنٍ للغة الفرنسية ولو لم يكن من القومية الفرنسية ولا الجنس الفرنسي ثم أبدع فوق ذلك النص كان في القراءة البادية للإبداع المنطوقة في شقها الأول، وإذا أخذ النص وقرأه دون حضور المبدع ثم شرع يبني عليه إبداعا آخر كان في القراءة البادية للإبداع في شقها الثاني، أي كان في القراءة الثانية المكتوبة، وهذان شرطان أساسيان للنقد المَمْدَري يضاف إليهما بداهة الشرط الثالث وهو في الترتيب الأول، إنه شرط ضرورة إتقان اللغة المكتوب بها النص، وبهذه التقنية البسيطة يصبح النص الأدبي الفرنسي نصا مورس عليه النقد المَمْدَري، وكان الذي فعل ذلك ناقدا مَمْدَرِيا.
ولا يقال بهذا الصدد أن ما عِبْتَه على النقاد سابقا بشأن الإسقاط قد وقعتَ فيه حين أقحمت النصوص غير العربية في النقد المَمْدَري لتجعل منها أدبا مَمْدَريا وهو إقحام معيب.
والجواب على ذلك أنني لم أمارس الإسقاط، لأن الإسقاط إتيان بمقاييس لنصوص غير عربية وإسقاطها على النص في الأدب العربي دون أن تكون هناك علاقة تجيز الإسقاط، وأنا هنا لا أبحث عن علاقة بديعية (نسبة إلى علم البديع) حتى تكون للنقد المَمْدَري في النصوص غير العربية مصداقية، كلا، فالنقد المَمْدَري بالتقنية التي وضعتُها له مستقلّ عن أيّ تأثير، ولكنه عاشق للنصوص الأدبية، وما دام عاشقا للنصوص الأدبية عربية وعجمية فالنقد المَمْدَري يُعْنى بها شريطة أن يُنْظر إلى النص بنفس العين اللغوية التي كُتب بها ذلك النص، وهذا كاف لإدراك غياب الإسقاط، وكاف أيضا لإدراك إمكانية دخول النقد المَمْدَري على سائر النصوص الأدبية عربية وعجمية.
والجواب على السؤال الثاني أن الأعمال الأدبية المترجمة تنحو نحوين، تسير إلى نقل الأعمال الأدبية نقلا ناقصا، وتعمد إلى الإبداع الذي ينتج عن الإبداع المقروء لدى المترجم، وفي هذا ظهور نقص في نقل العمل الأدبي كما هو، وظهور لتعويض ذلك بإبداع جديد يأتي به المترجم، وهذا العنصر يدخل في القراءة البادية للإبداع في شقها الثاني، وبذلك يظهر النقد الممدري بهذا الشق.
وبما أن العمل المترجم عمل قد بُصم ببصمة المترجم سواء أتقن نقل الإبداع أم لم يتقنه؛ المهم أن العمل المنقول إلى غير لغته الأصلية عمل أدبي، ومادام عملا أدبيا فإنه يسري عليه ما سرى على غيره من الإبداع في النقد الممدري، وبه يدخل العمل المترجم إلى النقد الممدري ولكنه لا يلتفت إلى المبدع الأصلي، بل يركز على الترجمة، أي يركز على عمل المترجم، وعمل المترجم إبداع فوق إبداع، وهو بذلك يدخل النقد الممدري وينسحب عليه، صحيح أنه لا يستوفي جميع شرو النقد المَمْدَري ولكنه يأخذ بثنتي القاعدتين وهذا كاف لإحداث النقد المَمْدَري والإتيان به وإبداعه.
وعليه فدخول النقد المَمْدَري الأدب الأعجمي المترجم وغير المترجم سواء كان فرنسيا أو صينيا أو روسيا أو إنجليزيا أو غيره يجعل من النص الأدبي الأعجمي نصا قد مورس عليه النقد المَمْدَري، وكان الممارس له ناقدا مَمْدَرِيا بلسان أعجمي، وكان الذي يمارس النقد المَمْدَري للنص الأدبي العربي ناقدا مَمْدَرِيا بلسان عربي وهكذا.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الناقد المَمْدَري: محمد محمد البقاش
طنجة في: 18 فبراير 2019م
www.tanjaljazira.com
mohammed.bakkach @gmail.com
(1) الانصزالية: الانصزالية من: صهر، وعزل. الانصزالية كلمة مركبة من كلمتين هما: الانصهار، والعزل. وتعني تقنية الانصزال؛ تقنية الانصهار وتقنية التعازل.
والتقنية الانصزالية تقنية سردية تأخذ جرمين ممدريين أو أكثر وتصهرهم، وفي هذا الانصهار لجرمين ممدريين ظهور لتعازل الأجرام الممدرية لا يميزه إلا اللبيب المتذوق، فهو ليس كخلط الماء بالزيت يظهر كل جسم معزولا عن الآخر بعد فترة من توقف الخلط وركود السائلين، بل هو خلط ومزج لجرمين أدبيين يصعب فرزهما، يظهران في واحد، وهما اثنان، يمتزجان ويختلطان وينصهران حتى يبدوان وكأنهما جرم واحد، وهذه التقنية منوطة بالكاتب الذي يعمد إلى سرده فيتقن لعبة الانصزالية، وفي رأيي أنه إذا لم يستطع جعل المتلقي والقارئ حائرا شاكا مهزوزا لا يكاد يفرق ويميز بين الجرمين الأدبيين الممزوجين المختلطين المنصهرين، فإنه لم ينصزل. المصدر: ـ
الكتاب: النظرية الممدرية (في الفكر والأدب والفلسفة..)
ـ النشرة الورقية الأولى (الطبعة الأولى): 2012
ـ الحقوق: محفوظة للمؤلف
ـ الإيداع القانوني: 462 ـ 98
ـ ردمد: 1114 – 8640 ISSN
ـ الغلاف: للرسامة الإسبانية من أصل لبناني فاطمة سعيد مغير
ـ السحب: ناسابريس بطوطة ـ حي بلير 17 رقم: 28B طنجة
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ