سيناريوهاتٌ لإجهاض مشروع ثورة الشعب المصري
مصطفى أمزير كاتب من طنجة المغرب
على مشارف الذكرى المشؤومة للإلتفاف العسكري الأمريكي على ثورة الأحرار في مصر .. أضع بين يدي أصدقائي مقالتي هذه التي ظهرت على صفحات " القدس العربي"(يوم10-02-2011) في أوج التفاعل الثوري محاولة ً التنبيه، في حينه إلى ما يخطط للثورة في دهاليز المخابرات الدولية إذا لم تُسيج بالوعي إلى جانب الاندفاع العاطفي.. مع الأسف ما توقعناه قد حصل .. ولله الأمر من قبل ومن بعد..
ضاع رابط المقال بعدما حينت القدس العربي معطياتها بعد أن غادر عبد الباري عطوان رئاستها سنة 2014.. فأتلفت كل الروابط التي كانت قبل هذا التاريخ. ولعله من حسن حظي أنني معتاد على الاحتفاظ في أرشيفي بنسخة من العدد الورقي، وبأصل المقال ..
المقال ليس بالغ الطول .. ومع ذلك يحتاج إلى نفس في قراءته.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
سيناريوهاتٌ لإجهاض مشروع ثورة الشعب المصري
لم يكن مطلب تغيير النظام المصري مفاجئا لأي متتبع للوضع السياسي في منطقة الشرق الأوسط؛ فمنذ سنوات والإحساس بإمكانية حدوث شيء ما داخل مصر يتعاظم مع حجم الإذلال غير المسبوق الذي وضع النظام المصري بلده وشعبه فيه استجابة للمصالح الأمريكية والصهيونية في المنطقة. فبغض النظر عن الفساد و سوء المعيش اليومي للإنسان المصري الذي جعله النظام المخابراتي بقيادة رفاق عمر سليمان يلتقط رغيفه ممرغا في كثير من الإذلال والمهانة ومرارة الخوف من البوح كباقي الشعوب العربية التي تشاركه هذه الصفات ، فقد صار هذا النظام، الصادم بوقاحته لكرامة الأمة، في السنوات الأخيرة مبعث كل التنازلات الكبيرة التي همت فلسطين ولبنان والعراق ، محولا جغرافيته الجميلة "منتجع شرم الشيخ" إلى ماخور عالمي لشواذ السياسة والمتواطئين من التجار الكبار في أعراض الأمة وقضاياها المصيرية.كل من كان يرى هذا المسار السياسي المخزي للنظام كان يرى نهايته القريبة، وكان يتنبأ بأن تقوم حتى أمريكا بالتخلي عنه في أية لحظة تجد فيه بديلا مرضيا عنه؛فقد أدى الإجهاد في استعماله لمصلحة الإمبريالية والصهيونية ،بالمباشر والمكشوف، إلى أن يستنفد دوره للحد الذي لم يعد هناك إمكانية لاستعماله أكثر.غير أن الذي كان وما زال يقلق أمريكا هو عدم جاهزية البديل،الذي يجب ،ضمانا للاستعمال الطويل أيضا،أن يجمع في نفس الآن بين التأييد الشعبي والعمالة المبطنة لأمريكا. فكل الوجوه الشعبية المتوفرة في الساحة ابتداء من الإخوان، مرورا بالناصريين والمستقلين من الجمعيات الأهلية، وصولا إلى الشيوعيين لا تملك، حفاظا على رصيدها الشعبي في هذه المرحلة، إلا أن تكون منحازة – رغما عنها- إلى غزة والمقاومة وتتبنى إلزاما خطابا مناهضا للكيان الصهيوني. ولعل هذا ما يعمق ورطة أمريكا في مصر التي يبدو وضعها الثوري أكثر تعقيدا من أي منطقة أخرى في العالم ؛ فإذا كان من السهل على أمريكا تغيير دُماها هنا أو هناك بالتي هي أحسن أو بالتي هي أسوء ،وفرض إرادتها على الشعوب الرافضة لها ولو بحرق الأرض والنسل كما في العراق وأفغانستان ،فإن وضعية مصر تجعل أيّ مغامرة من هذا النوع تبدو مكلفة ومكلفة جدا لمصالح أمريكا والصهيونية في المنطقة فالبلد محادٍ للكيان الصهيوني الحليف الاستراتيجي لأمريكا، و يضم أكبر نسبة من السكان في العالم العربي وأقوى جيش فيه، ناهيك عن موقعه الجغرافي الحساس بالنسبة للمصالح الغربية وصناعتها. هذه العوامل، وغيرها كثير، يجعل من أي خيار غير محسوب الخطوات من شأنه أن يأتي بنتائج عكسية تعيد مصر للأمة فتحترق بعد ذلك كل أوراق أمريكا الاستراتيجية التي بنتها وإسرائيل في المنطقة عبر سنوات طويلة من العمل والجهد والمال. وليكون ذلك إيذانا ببداية عهد جديد في تحرر كل المنطقة من العصر الصهيوأمريكي. وللحيلولة دون وصول الثورة إلى هذا المطمح الغالي، فإن النظام المصري المدعوم من قبل المخابرات الصهيونية والأمريكة هو الآن، بلا أدنى شك، في غرفة عمليات واحدة لإدارة الأزمة والإعداد لمجموعة من السيناريوهات المجهضة لهذا الحلم الجميل، التي نتوقها كالتالي:
أولا: خيار القمع المفرط
جُرب هذا الخيار في بداية اندلاع الثورة لإحداث الصدمة الأولى عن طريق القتل الجماعي والاعتقال والتعذيب والملاحقة طمعا في أن يؤدي ذلك إلى الانكفاء والتراجع ،وهو خيارٌ معهود تلتجئ إليه كل الأنظمة القمعية كما حصل في كثير من التجارب الإنسانية الحديثة في أمريكا اللاتينية وأسيا وإفريقيا وفي معظم الدول العربية لطمس شرارة التغيير الأولى، هذا الخيار يكون ناجعا إذا كانت الجهة التي تواجهها هذه الأنظمة قليلة العدد أو من الصنف الذي لا يحصل على برامجها إجماع شعبي .حاول النظام المصري إرهاب الجماهير المؤيدة للثوار وحصد في أقل من أسبوع أكثر من 300 شهيد و5000 جريح حسب الإحصاء الرسمي لوزارة الصحة. غير أن هذا الخيار لم ينجح في الوصول إلى أهدافه للالتفاف الشعبي حول مطالب الثورة، مما أدى إلى تضاعف عدد المتظاهرين في الساحات والمدن المصرية إلى الملايين بدل الآلاف فقط كما كان الحال مع بداية فكرة التجمهر. أكيد أن خيار القمع المفرط لن يكون من أولويات النظام في هذه المرحلة من الثورة كخيار عملي لإجهاضها، فقد تجاوزه الشعب المصري بجماهرية مطالبه وشجاعة شبابه، لكنه يبقى خيارا واردا إذا ما دب الخلاف بين التوجهات السياسية الرئيسة المؤطرة للثورة في شأن الحوار مع النظام ساعتها سيعود النظام حتما إلى القمع المفرط لملاحقة الشباب وإقامة المحاكمات الصورية ومصادرة حق التجمهر...ولن تكون بعدها إمكانية أخرى للعودة إلى الشارع، لأن حركة الجماهير لا تحدث إلا مرة واحدة أو أقل كل ثلاثة أو أربعة أجيال لإفشال إمكانية العودة من قبل النظام إلى هذا السيناريو الإجهاضي ينبغي الاتفاق على برنامج شعبي موحد يحفظ شعار الثورة الأساس" الشعب يريد إسقاط النظام"،مع استبعاد حسن النية تماما من معادلة المواجهة، فليس من قيم الاستبداد الأخلاق أو المروءة أو الوفاء للعهود أو الدين ...فوضع الأنظمة الاستبدادية وضع الثعابين ما إن تحس بالدفء حتى تسارع إلى الالتفاف على الضحية والتهامه بكثير من النشوة والاستلذاذ.
ثانيا: سيناريو الأرض المحروقة
يرتكز أسلوب الأرض المحروقة على فكرة إدخال الثورة في متاهات الفوضى الدموية عن طريق الالتجاء إلى فيالق الموت (كما حصل في الجزائر والعراق)، أو القيام بتفجيرات مدبرة تشوه وجه الثورة،أو إنشاء جماعات مسلحة عميلة (ملتحية في الغالب!) لافتعال صراع ديني مع المسيحيين...تبرر تدخل الجيش للقيام بحملات تطهير قاسية في صفوف الثوريين...خيار لن يتوانى النظام المصري عن اللجوء إليه إذا ما اقتضت مصلحة فاسديه وأوليائهم ذلك؛ لكنه في رأيي يبقى خيارا مستبعدا جدّا للاعتبارين التاليين:
1-للوعي الشعبي على هذا الاحتمال. فقد انتبه المسيحيون قبل المسلمين، في خضم الانفلات الأمني الأخير إلى أن أحدا لم يقم باعتداء على كنيسة، ولا فجر عبوة في منتجع سياحي ولا خطف أجنبيا...مع أن الظرف كان مناسبا جدا لمثل هذه الأعمال الشيء الذي برهن على أن كل ما وقع سابقا كان من تدبير النظام لتبرير استمراريته في الحكم عملا بقاعدة حسني مبارك" لن أرحل حتى أجنب البلد السقوط في الفوضى!".
2-الالتجاء إلى خيار الأرض المحروقة من شأنه أن يؤدي إلى عنف مضاد من قبل الشباب الذين يمتلكون شرعية شعبية واضحة، وهو الأمر الذي سيقود حتما إلى أن تصبح مصر مرتعا للحركات المسلحة (كالقاعدة مثلا) التي من مصلحتها إضعاف الأمن الداخلي للبلد للقيام بعمليات عسكرية ضد الصهاينة من الحدود المصرية.
ومن هذه الزاوية لا أعتقد أن أمريكا أو إسرائيل ستنصحان النظام المصري باللجوء إلى هذا السناريو الذي سيجلب لهما الويلات العظيمة في المنطقة.
من الاعتبارين يبدو أن ثورة مصر محصنة بحكم حسنات جغرافيتها المحاذية للكيان الصهيوني من سيناريو الأرض المحروقة وكل الكلام الذي يداوله الإعلام الرسمي عن إمكانية تحول مصر إلى أفغانستان أو العراق أو الصومال كلام للتهويل والتخويف فقط، لن يقبله السيد الأمريكي ولو اضطر إلى أن يقبل بحكم الإخوان المسلمين أنفسهم.
ثالثا: سيناريو الحكومة الانتقالية الائتلافية
يقوم هذا الخيار على ممارسة ضغط إعلامي وسياسي مستمر على المتظاهرين، واللجوء إلى المماطلة في الاستجابة لمطالبهم وإظهارها بمظهر المستحيل قصد استنزاف صبرهم، مع اقتراح بين الفينة والأخرى حلول وسط تدخل على خطها شخصيات "مقبولة" – كما الحالة التونسية-في أفق إقناع الشباب بحل توفيقي ينتهي بحكومة ائتلافية تهيئ لانتخابات تشريعية ورئاسية تفرز في آخر المطاف خريطة سياسية لا تعطي الأغلبية لأي طرف سياسي على الآخر. سيمكن هذا السيناريو، إن حصل، الاستعمار الأمريكي والصهيوني من التسرب من جديد إلى مقاليد الحكم في مصر عبر رجاله المخلصين في ثوب الشرعية الديمقراطية هذه المرة، ليمارس تأثيره على قرارها السياسي لعقود طويلة قادمة لا قدر الله. هذا السناريو هو الأكثر تداولا والأشد خطورة؛ يبدو من جهة مقبولا لأنه يضمن انتقالا سلميا مستجيبا لبعض مطالب الشعب ،لكنه في العمق خطير جدا لأنه يقضي على حلم تغيير النظام الذي قدم الشعب من أجله أغلى ما يملكه من أرواح، فالنظام ليس شخصا بعينه وإنما تشريعا وقانونا واختيارا اقتصاديا ومواقف سياسية من قضايا الأمة المصيرية، ومعاهدات مع العدو...ومن يأمن مكر من ترضى عنهم أمريكا أو الصهاينة، ممن يتواجدون في السلطة الآن ،حري به أن يعتزل السياسة وينسحب من الجماهير حتى لا يجني على هذه الثورة المباركة وعلى أجيالها القادمة. لنتذكر ثورة الأردن في الثمانينيات، فما إن استوى النظام على العرش حتى لفظ الإخوان بعد أن أعطاهم في البداية أكثر مما يتوقعون، وفي تونس أيام بن علي وفي المغرب أواخر حكم الحسن الثاني...تجارب متشابهة تلزم الثوار بضرورة أخذ الحذر والتشبث أكثر بخيار التغيير الشامل وجوها وأنظمة. خاصة وان الشارع المصري يملك من الأوراق ما يجعله في وضعية الضاغط المستريح، فالذي هو في عنق الزجاجة حقيقة هم أمريكا وحلفاؤها لا الجماهير، فالنظام لا يملك يقينا أي خيار قمعي الآن بعد أن تشعبت الثورة وأصبحت محتضنة من قبل المجتمع، كما أن أمريكا ليس بمقدورها أن تفعل شيئا أيضا إن فشل هذا السيناريو سوى الخضوع مضطرة إلى خيار الشعب. فلا شيء إذن يبرر العجلة من قبل القوى الشعبية الثائرة.
رابعا: سيناريو الانقلاب العسكري
لعله الورقة الأخيرة من سيناريوهات النظام المصري لإجهاض الثورة، وللتذكير فإن التهييء لإنزاله على أرض الواقع قد بدأ منذ اليوم الأول للحراك الشعبي ضد النظام؛ فقد بدأ الحبك لهذا المخرج من خلال إظهار الجيش في صورة المحايد في الصراع، ثم القيام بحملة إعلامية ملمعة لبعض وجوهه القيادية، حتى إذا ما اضطرت أمريكا إلى استعمال ورقة الجيش المصري كان الجو الشعبي مهيئا لاحتضانها. سيتولى العسكر، وفق هذا السناريو المعتاد ،السلطة لفترة انتقالية مع وجوه مدنية مقبولة ثم إجراء انتخابات رئاسية وتشريعية يسلم بعدها البلد لقيادة جديدة، في الغالب ستكون من القيادات العسكرية المستقلة من الجيش على شاكلة السودان أو موريتانيا بذلك ينتهي حلم التغيير وتبقى الأمة لعقود أخرى- لا قدر الله- تفكر في ثورة أخرى وفي حلقها غصة ثورة لم تحفظها بوعي.
أمام هذه السيناريوهات المحتملة من قبل أعداء الثورة، يبقى السيناريو الذي سيصنعه الشعب المصري في ميدان التحرير وفي غيره من مدن وحارات مصر هو الأصل والفصل؛ سيناريو التغيير الشامل، الذي لن يتأتى إلا من خلال الرفع المتتالي لسقف المطالب كل يوم وليشرب بعدها النظام ومعه أمريكا وإسرائيل ماء البحر.