"عْياوْ".. "عْياوْ"..
اختلطت رنّات الخشب برنات الحديد والنحاس، رنّ الكلس والجير، صوَّت الطين والصخر، فُتحت النوافذ، وتخلخلت الشناكل، أطلت النساء والفتيات، أطللن بعدما تنامى إلى سمعهن صوت "الطَّرّاح".
تردّد صداه وسط أزقّة ضيقة، اخترق الجدران والشقوق حاملا معه لغة الجماد من معدن وخشب، من صخر وحجر، رتّبها الهواء ونظّمها بعدما عزفتها أيد بشرية، كانت أنغاما متمرِّدة على مفتاح "فا"، طيِّعة في يدِ "صولْ"، غير آبهة بنوعية أدوات العزف..
وابتدأ النداء. شرعت الفتيات والنساء ينادين على الطراح وكل واحدة منهن تود أن تظفر بخدمته..
يقفن إلى الأبواب، إلى النوافذ رافعين أصواتهن: "الطّراحْ.. الطّراحْ.. أَجي..".
تختلط الكلمات في لُسْنهنّ وبالكاد ينطقن العامية، منهن من تحمل وُصْلة من عجين مخبوز، بعضهن يمسكن صحونا وصينيات بها فلفل أخضر يُرجى تسويده، وأخريات بأيديهن طواجين من يرجى طهيه..
وقف "الطَّراحان" يفحصان بذكاء ما بأيد النساء والفتيات.
"الطراريح" يرتدون الطرابيش للتخفيف من ثقل العجين المخبوز فوق رؤوسهم، وهذان الطّراحان برأسين حاسرين وحماس في المنافسة على كسور خبز أعجف، أطلقا نظرهما في محاولة انتقاء ما يريدان، استقرا على امرأتين تحملان طاجينين، وفتاتين تنوءان بصحنين..
حملا الطاجينين وبهما سمك، والصحنين؛ واحد به بطاطا حلوة، والآخر به فلفل وطماطم للصلادة، ذهبا إلى الفرن بما حملا وقد تركا النساء والفتيات اللات لم يحظين بخدمتهما قلقات مناديات مترجيات ملحّات بالعودة على جناح أسرع
طائر، ذهبا لا يمنعان صدى الكلام من ولوج الآذان، لا يمنعان العقل من إدراك أقوال ستقال، أو آراء ستبدى..
من النساء من تقول: "قريبا يعود زوجي للغذاء ولا خبز لدي". وأخرى تقول: "سيفسد الخبيز". والثالثة رافعة صوتها: "من عاد قبل فساد العجين أكرمه زيادة".. تحرّكا بنقص شديد في الكليكوجين، عضلاتهما لا تزال تستطعم النسيج العضلي لقلبيهما وما تذوّقا قِرى الحشرة الكريمة. يبْسٌ يكاد يصيبهما وكأنما اختُّل في دمهما مستوى الأسّ الهيدروجيني. قصدا فرنا حتى دخلاه. طلبا من "المعلّْم" أن يحمل طراحا أو اثنين إلى الذهاب إلى حومة تَنْظارة، ضللاه كي لا يبعث إلى مساكن تطل على شارع كيفيدو Quevidoبها نساء وفتيات ينتظرن من يحمل عنهن العجين والطواجين إلى الفران.. عاد الطراحان بعد جولة في شوارع وأزقة المدينة. تخللا أحياء غاصة بالإسبان والإنجليز والبرتقيز.. بها أجناس شتى غالبيتها أوروبية.. بها أقلية من آسيا وأمريكا يستوطنون المدينة الدولية وقد أحبوها وأعجبوا بها.. حملا الطاجينين وذهبا إلى حي الدرادب، قصدا منتزه عَشّابة وتركا النساء ينتظرن عودة الطّراحيْن بالغذاء. يسيران على خَرَس مُجفَّف كما لو كانا خلية هاجرت قَلَويتها. ظل السكون آمنا على نسيجه لا يخشى مِزْقا، وظل الموظفون ورجال المال والأعمال في ترقُّب لطقطقة الطراريح على مصارع الأبواب.
========
في انتظار نشر الرواية كاملة
|